مقالة جدلية
- هل اللغة عاجزة عن استيعاب كل أفكارنا ؟
- هل العلاقة بين اللغة والفكر اتصالية أم انفصالية ؟
- هل اللغة والفكر متّصلان أم منفصلان ؟
- مقدّمة :
يسعى كل إنسان إلى معرفة واكتشاف معطيات العالم الخارجي ، وبما أنه كائن اجتماعي فهو يسعى إلى بناء مجموعة من العلاقات والتواصل مع الآخرين ، وذلك من أجل تحقيق التكيّف والتأقلم , ويعتمد في ذلك على عدة قدرات وآليات من بينها اللغة والفكر ، فاللغة مجموعة من الإشارات والكلمات والأصوات والرموز يُعبّر بها الإنسان عن حاجياته الضرورية, أمّا الفكر فهو جملة التصورات والمدركات العقلية التي تمثل النشاط الذهني الذي تدخل فيه العديد من الفعاليات العليا للعقل مثل : التحليل والتفسير والتأويل , ومن القضايا التي نشأ فيها خلاف بين علماء اللسانيات و الفلاسفة طبيعة العالقة بينهما , فمنهم من يرى أنها علاقة انفصالية ، وبنقيض ذلك هناك من يرى أنها اتّصالية , ومن هذا التباين والاختلاف نطرح المشكلة التالية : هل العلاقة بين اللغة والفكر انفصال ام اتصال ؟ وبعبارة أخرى : هل تعجز اللغة أن تعكس كل ما يدور في فكرنا ؟
القضيّة الأولى :
يرى أنصار الاتّجاه الثنائي الإنفصالي أنه يجب التمييز والفصل بين اللغة والفكر وأنّ الفكر سابق عن اللغة , لأنّه لا يوجد تطابق وتناسب بين عالم االفكار وعالم الألفاظ ، فالفكر أسبق زمنيا من اللغة وأوسع منها , وأنّ ما يملكه الفرد من أفكار ومعان يفوق بكثير ما يملكه من ألفاظ وكلمات , وكثيراً ما تتزاحم المعاني في الذهن , لكن تعجز اللغة عن مسايرتها وهذا يدل على أنه لا يوجد توافق بينهما , فالتردد في التعبير والتوقف أثناء الكتابة وتعويض ألفاظ بأخرى يؤكد على أنّ الفكر مستقل عن اللغة ، قال برغسون " اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر " وقال أبو حيان التوحيدي : " فقد بدا لنا أن المركب اللفظي لا يحوز مبسوط العقل " ، ولقد ميز برغسون بين نوعين من التجربة : الحية والآلية , الأولى تمثل في قوله " أعماق الإنسان وهي تيار حركي وسيل متدفق يحس الإنسان فيها بأدق أحداثها , يسير في مرتفعاتها ومنعطفاتها وخطوطها الملتوية سريعة الإنحاء " . وهذا النوع من التجارب مجاله الخلق والإبداع ، وهذا ما لا تقوى عليه اللغة , لأنّ الفكر فيض من المعاني المتدفقة التي لا تعرف الانفصال ، قال برغسون : " اللغة هي غير صالحة لوصف المعطيات المباشرة للحدس وصفاً حياً " ، وقال أيضاً : " أن اللغة تحجر الفكر وتقتل الديمومة " ، بمعنى أن اللغة ذات طابع مادي , أمّا الفكر فهو جوهر روحي ومعنوي , في حين أنّ النوع الثاني أي التجربة الآلية فمجالها أشياء ثابتة يتصل بها الإنسان عن طريق لغة المعادلات ، لذلك فاللغة عموماً يمكنها التعبير عن المعاني العلمية والتصورات الموضوعية والمجردات الرياضية بدقة ، أمّا الفكر فلا سبيل إلى التعبير عنه , بالإضافة إلى ذلك فالفكر يتجاوز دلالة اللفظ الذي يعبر فقط على ما اصطلح وتعارف عليه المجتمع فهو إذن خارجي ، ولهذا السبب ينظر برغسون إلى الكلمات على أنها " بطاقات ملتصقة على الأشياء " ، ومن جهة أخرى إذا كانت المعرفة عند افلاطون تذكّر والجهل نسيان فإنّ الأفكار في أعماق النفس ينبغي تذكّرها فقط بواسطة التأمل العقلي , فاللغة لا تصنع الفكر لأنّه سابق في وجوده عليها ، وما ينبغي القيام به هو التذكر من أجل معرفة الأفكار , فالفكر هنا صورة توجد في عالم المثل أمّا اللغة فهي في العالم الحسي ، و يؤكد ديكارت في ثنائية الجسد والروح أن الفكر المادي مرتبط بالنفس بسبب طبيعته المعنوية , أمّا اللغة فتنتمي للجسم بسبب طبيعتها المادية ، فتكون بذلك وسيلة للتعبير عن الفكر القائم بذاته , لهذا يستحيل الجمع بينهما , فالفكر أغنى وأوسع من اللغة , إنّ اللغة لا يمكنها استيعاب كل جوانب الفكر ، وهذا ما أكدته بالمثل النزعة الرومانسية في عصر النهضة , حيث يصعب التعبير عن الحياة الباطنية والفكرية بشكل دقيق بواسطة اللغة التي تقيد الفكر وتجمد حيويته في قوالب , فعالم الألفاظ منفصل ولا يمتلك القدرة على تغطية المعنى الكامل ، ولهذا فان الأفكار تموت في لحظة تجسيدها في كلمات , ولهذا السبب ابتكر الإنسان بدائل جديدة للتعبير : كالرسم والموسيقي والمسرح ... وغيرها ، حيث قال الصينيون : أنّ " الصورة افضل من ألف كلمة " , وعليه فإنّ الفكر يسبق اللغة .
- النقد :
على الرغم ممّا قدّمه أنصار الإتجاه الثنائي من أنّ الفكر يسبق اللغة إلاّ أننا نلمس تحيّزاً واضحاً للفكر وإهمال لدور اللغة ، ونحن نعلم أن اللغة هي التي تخرج الفكر من الغموض إلى الوضوح , فهي التي تجعل الفكر يتحقق ويتجسد في أرض الواقع , قال هيغل " الفكر لا يحتوي على 4 أشكال فارغة ، بل يضم مفاهيم تقابلها رموز لغوية " ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ عجز اللغة عن مسايرة الفكر أحيانا يعود إلى محدودية ما نملكه من ثروة لغوية وليس إلى اللغة في حدّ ذاتها ، حيث بيّنت الأبحاث العلمية أنّ الأطفال الذين لا يتعلمون اللغة يفتقدون إلى العديد من الصفات الإنسانية .
- القضيّة الثانية :
يرى أنصار الإتجاه الأحادي الإتصالي أنّ اللغة والفكر متّصلان ، قال هيغل " الكلمة تعطي الفكر وجوده الأسمى والأصحّ " ، فالإنسان يزداد نشاط فكره بازياد وتطور وسائل التعبير لديه ، مما يجعلنا نعتقد أنّ اللغة يفوق دورها بأن يكون محصوراً على التبليغ بل يتعدى الأمر ذلك في كونها وسيلة يزداد الفكر بفضلها تطوراً ، قال ارسطو : " ليست ثمة تفكير بدون رموز لغوية " ، وتتجلى مهمة اللغة كأداة للتفكير في مظاهر متعددة منها عملية التحليل , فالتعبير عن الأفكار يتطلب تحليلها إلى عناصر ، وباللغة فقط يمكن تجزئة الأفكار والمعاني ونقلها إلى الغير ، واذا كانت اللغة أداة تجزئة فهي ضرورية أيضاً لتحديد الأفكار وتنظميها , فكثيراً ما تبقي الفكرة في أذهاننا مشوشة ونحن نبحث عن الكلمات والعبارت المناسبة للتعبير عنها ولا يزول عنها التشويش إلاّ إذا انتظمت في قوالب لغوية , وبهذا يصبح التفاهم مع الغير ممكناً ، وهذا ما جعل اللغة عموداً ، أيّ لا يتشكل الفكر في أذهاننا بغياب اللغة ، فهي الروح والفكر هو الجسد ، ولا قيمة للجسد بلا روح ، فلولا اللغة لما عبّرنا عمّا يدور في عقولنا من أفكار و رؤى ، ولولاها لبقيت جلّ أفكارنا مخبأة ومخزونة في عقولنا جامدة لا روح فيها , فاللغة كما يقول مارتن هيدغر " هي المسكن الذي نسكن فيه " ، فاللغة هي التي تعبر عن الفكر في شكله الذاتي ليأخذ طابعاً موضوعياً واجتماعياً ، وهذا يدلّ على أنها ليست ثوب الفكر ووعاؤه الخارجي فقط بل جسده وصميم وجوده ، وعليه فاللغة والفكر يلتقيان دائما ، فكثرة المفردات تابعة لكثرة المعاني وتطور الألفاظ تابع لتطور الفكر وخصوبته ، لذلك كلما زادت قدرة الفرد على التفكير والتعبير كلّما اتسعت ثروته اللغوية , وبهذا لا يمكن القول بأنّ اللغة تعرقل الفكر بل الألفاظ تحفظ المعاني وتبقي عليها ، لذلك قيل : " الألفاظ حصون المعاني " ، بالإضافة إلى ذلك فالطفل في علم النفس يتعلم الفكر واللغة في نفس الوقت فهو يكشف أفكاره من خلال العبارات التي يستعملها لأنّ اللغة والفكر متلاحمان , إذن التفكير بدون كلمات ضرب من الوهم الكاذب ، قال هيغل : " إنّ التفكير بدون رموز لغوية لمحاولة عديمة الجدوى" ، وما يؤكد أيضاً على وجود ترابط بين اللغة والفكر هو ما قدّمته اللغة من فضل على الإنسانية ، فهي تساعد على حفظ التراث الإنساني وعلى نقله من جيل لآخر , إنّها تربط الماضي بالمستقبل ـ ولهذا يُنظر إلى اللغة على أنّها مكسب ثقافي وموروث يعكس الرصيد الحضاري للشعوب ، وعليه فاللغة والفكر شيء واحد ، وأنّ نظام الكلمات مطابق لنظام الأفكار .
- النقد :
على الرغم ممّا نادى به الإتجاه الأحادي من أنّ اللغة والفكر متكاملان , لكن لو كانت اللغة قادرة على التعبير عمّا يدور في أذهاننا دون عقدة وأنها كل شيء, إذن بماذا نفسّر الجمود الذي ينتابنا ونحن نريد أن نقول شيئا ما ؟ حيث نجد أن اللغة غير قادرة على التعبير عن أفكارنا و وجداننا , باحثين عن جمل وألفاظ تملئ الفراغ ، قال شوبنهاور : " أنّ الكلمات تعجز عن وصف شعوري ", إذاً الفكر أوسع وأسبق من اللغة وهذا ما يؤكده الواقع .
- التركيب :
في الحقيقة ينبغي القول أنّه لا توجد لغة بدون فكر ولا فكر بدون لغة ، فالفكر متضمّن داخل اللغة واللغة لباس الفكر ، قال ميرلوبونتي : " أنّ الفكر لا يوجد خارج الكلمات " ، ويقول دوال كروا : " أنّ الفكر يصنع اللغة وهي تصنعه " ، فللغة والفكر كما يرى ماكس مولر مظهرين لعملة نقدية واحدة ، فهما يمثلان كيان واحد ولهما غاية مشتركة رغم اختلاف دور كل واحد منهما ، فاللغة مرتبطة ارتباطاً ضرورياً بالفكر ، كما أنّ الفكر يرتبط ارتباطاً ضرورياً باللغة .
- الخاتمة :
في الأخير نستنتج وبالرغم من الاختلاف الموجود بين اللغة والفكر أنهما يشكّلان كلاً واحداً غير قابل للتجزئة ، فلا عمل للفكر دون وجود لغة ولا قيمة للغة دون فكر , فهما متكاملان ، والعلاقة بينهما تفاعلية تعرف الاستمرارية والسيرورة في الفهم والتكيف مع العالم الذي يعيشه الإنسان ويحيياه بشكل دائم و مستمر ، حيث يقول جان بياجيه : " البنية اللغوية تعبر عن البنية الفكرية " .